اعجاز العلمي تدبر آيات الله والتأثر بها
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد:
فإن من دلائل إيمان المؤمن تدبره لآيات ربه، وتأثره بها، وإذا ذكر بها خشع قلبه، واقشعر جلده، وأثمر ذلك زيادة في إيمانه، وإقباله على الله تعالى، ومسارعته في مرضاته، وامتثاله لأمره واجتنابه لنهيه قال سبحانه: ï´؟ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىظ° رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ï´¾ [الأنفال: 2].
وقال سبحانه: ï´؟ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَىظ° ذِكْرِ اللَّهِ ï´¾ [الزمر: 23].
وفي صفات عباد الرحمن قال سبحانه:
ï´؟ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ï´¾ [الفرقان: 73].
قال السعدي - رحمه الله - في تفسيره:
(أي: لم يقابلوها بالإعراض والصمم عن سماعها، وصرف النظر والقلوب عنها كما يفعله من لم يؤمن بها ولم يصدق، وإنما حالهم فيها وعند سماعها كما قال تعالى: ï´؟ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ï´¾ [السجدة: 15] يقابلونها بالقبول والافتقار إليها والانقياد والتسليم لها، وتجد عندهم آذانًا سامعة وقلوبًا واعية فيزداد بها إيمانهم ويتم بها إيقانهم وتحدث لهم نشاطًا ويفرحون بها سرورًا واغتباطًا).ا هـ
وفي المقابل بين الله تعالى حال الكفار والمنافقين مع ذكر الله وآياته، فقال سبحانه: ï´؟ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً غڑ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ï´¾ [البقرة: 171].
وقال سبحانه: ï´؟ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ غ– وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ï´¾ [الزمر: 45].
أيها الأحبة في الله..
المؤمن يتأثر بآيات الله تعالى إذا ذكر بها، والتأثر بآيات الله تعالى إنما يحصل بالتدبر وقد أخبر الله تعالى أنه أنزل القرآن ليتدبره الناس فيعملوا به.
قال سبحانه: ï´؟ كتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ï´¾ [ص: 29].
قال الطبري - رحمه الله - وهو من علماء التفسير وأئمته: (إني لأعجب ممن يقرأ القرآن ولم يفهم معانيه كيف يتلذذ به؟! ويقول الزركشي رحمه الله: من لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر لم يدرك من لذة القرآن شيئا، وقال ابن تيمية رحمه الله: يدخل في معنى قوله عليه الصلاة والسلام (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) تعليم حروفه ومعانيه جميعا؛ بل تعلم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه؛ وذلك الذي يزيد الإيمان). ا هـ.
ومن ثمرات التأثر بآيات الله الخشوع والخوف من الله تعالى، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم، أخشى الناس لله وأتقاهم له، وأخوفهم منه، وأكثرهم تأثرًا بآيات الله تعالى.
فعن عائشة -رضي الله عنها-، قام -صلى الله عليه وسلم- ليلة من الليالي، فقال: يا عائشة ذريني أتعبد لربي، قالت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك. قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذن بالصلاة فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟ لقد نزلت عليَّ الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر: ï´؟ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار ï´¾ [آل عمران: 190- 191]. (السلسلة الصحيحة).
وعنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى، من الْبُكَاءِ. رواه أبو داوود وصححه الألباني.
وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، قال عبدالله بن عروة ببن الزبير: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعوا القرآن؟ قالت: تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم كما وصفهم الله.
أيها الأحبة الكرام:
ومن ثمرات التأثر بآيات الله تعالى الانقياد التام لأمر الله، كما قال سبحانه: ï´؟ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ غڑ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ غڑ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غ– غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير ï´¾ [البقر: 285].
والانقياد والتسليم لأمر الله تعالى يجب أن يكون حال كل مؤمن ومؤمنة، والإسلام هو الاستسلام لشرع الله، قال سبحانه: ï´؟ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ï´¾ [النور: 51].
كان الفضيل -رحمه الله- يقول: "إنما نزل القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس قراءته عملًا".
قيل: كيف العمل به؟ قال: ليحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه.
فالمؤمن إذا ذكر بآيات الله تعالى: يقول سمعنا وأطعنا ويتقبل هذا التذكير بانشراح صدر وطيب نفس، راضيًا بحكم الله لا يجد في نفسه حرج ولا تضجر أمام قضاء الله وأمره ونهيه، ولله درٌّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا مثلا في الانقياد لأوامر الله تعالى وإن خالف ذلك عاداتهم وتقاليدهم.
لما نزلت آيات النهي عن شرب الخمر توقفوا عنها فورًا، وقالوا: انتهينا.. انتهينا. وجاء في "صحيح البخاري" أنه لما نادى المنادي في المدينة: ألا إن الخمر قد حرمت، سارع الناس إلى جرار الخمر في بيوتهم فكسروها، وأراقوا ما بقي منها حتى جرت في سكك المدينة وطرقاتها ولم يعترضوا أو يتثاقلوا في التنفيذ رغم أنها كانت جزءًا من حياتهم وعاداتهم.
ولما ما نزلت آية الحجاب تخاطب المؤمنات: ï´؟ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ... ï´¾ [النور: 31]، فما كان من نساء الأنصار والمهاجرات إلا أن شققن مروطهن فاختمرن بها، رواه البخاري في صحيحه.
ولما بلغهم خبر – الأمر بتحول القبلة نحو الكعبة، وهم يصلون نحو بيت المقدس استداروا إلى الكعبة فورا وهم في الصلاة.
فما هو حالنا مع أوامر الله ونواهيه إذا بلغتنا، بعضنا اليوم للأسف يتضجر وبتثاقل في تطبيق أمر الله تعالى ونهيه، بل بعض من ينتسب إلى الإسلام يعترض على حكم الله وشرعه عياذًا بالله.
أيها الأحبة الكرام:
إن من أعظم أسباب تأثر المؤمنين بآيات الله أنهم خافوه واتقوه سبحانه.
لله قَوْمٌ شَرُوا مِنْ الله أَنْفُسَهُم
فَأَتْعَبُوهَا بِذِكْرِ اللهِ أَزْمَانَا
أَمَّا النَّهَارُ فَقَدْ وَافَوا صِيامَهُمُ
وَفِي الظَّلَامِ تَرَاهُمْ فِيهِ رُهْبَانَا
أَبْدَانُهُم أَتْعَبَتْ فِي اللهِ أَنْفُسَهَم
وَأَنْفُسٌ أَتْعَبَتْ فِي اللهِ أَبْدَانَا
ذَابَتْ لُحُومُهُمُ خَوْفَ العَذَابِ غَدًا
وَقَطَّعُوا اللَّيلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا
دخل عيينة بن حصنن الفزاري على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ؛ فقال له -أول ما دخل عليه-: اتقِ الله يا ابن الخطاب ! فإنك لا تعدل.
فهم عمر أن يبطش به؛ لما قال له هذه المقالة: اتقِ الله يا ابن الخطاب! فإنك لا تعدل.
فقال الحر بن قيس مذكراً لأمير المؤمنين عمر - والحر كان من حملة كتاب الله-: يا أمير المؤمنين! إن هذا الرجل من الجاهلين، والله يقول: ï´؟ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ï´¾ [الأعراف:199].
قال: فوالله! ما تخطاها أمير المؤمنين عمر ولا تعداها، بل كان وقافاً عند كتاب الله عزَّ وجلَّ.
أيها الأحبة الكرم..
لقد توعد الله -جل وعلا- من يعرض عن آيات ربه فقال سبحانه: ï´؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ï´¾ [الكهف: 57].
وقال سبحانه: ï´؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ï´¾ [السجدة: 22].
أيها الأحبة في الله:
ما هو حالنا عند سماع آيات الله تعالى، ليسأل كل منا نفسه كم هي نسبة الإصغاء والتدبر والتأثر وكم هي نسبة الامتثال والعمل بها، عندما تتلى علينا آيات الله، لنتأمل في واقعنا، نسأل الله أن يلطف بحالنا ويعفو عنا تقصيرنا في آياته، قليل منا من يصغي وأقل من ذلك من يتأثر ويخشع قلبه، ويمتثل الأمر، فلنحاسب أنفسنا ولنعد إلى الله تعالى، ونعظم آيات الله حق التعظيم، إصغاء وخشيةً وتدبرًا وعملاً به وامتثالًا لأوامره ونواهيه، فلا فوز لنا ولا فلاح إلا بلزوم هدي ربنا وتعظيم آياته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبدالهادي بن صالح محسن الربيعي
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|