يحلو لبعض الناس أن ينظر إلى العمل الإبداعي كما لو أنه يصدر عن عقلية لا يسهل فَهْمها، أو كأنه وحيٌ وطاقة مليئة بالأسرار والغموض.
والحقيقة أنه لا يوجد في الإبداع، وما يصدر عن المبدع من عمل فني أو علمي أو تقني - ما يتعذر على الفهم أو التحليل.
المبدعون متشابهون على الرغم من اختلافاتهم، وعلى الرغم من اختلاف تخصصاتهم، فالغالبية العظمى منهم وصفوا أنفسهم ووصفتهم المقاييس النفسية والشخصية بأنهم تميزوا بدرجة عالية من الاستغراق والتفاني في العمل اللذين حققا لهم الشهرة والنجاح.
يقول هورلي: يملك معظم العباقرة إحساسًا قويًّا بالمحافظة على الاتجاه الواحد، فهم يعرفون ماذا يريدون، وما يريدون أن يحققوه، ولا يسمحون بأي مشتتات تعوقهم عن تحقيق أهدافهم مهما عظمت.
هكذا نجد أنه لا توجد طرق مختصرة للعبقرية، فالعبقرية والإبداعات العظيمة جميعها تتطلب آلاف الساعات من الجهد والتركيز، حتى في الحالات التي تبدو فيها عبقرية المبدع مبكرة.
إذًا العمل الإبداعي نتاج منطقي لجهد نشط وعمليات تركيز شديدة تفوق الجهد العادي، وعندما تهيمن القوة الإبداعية على الإنسان، تفرض هيمنتها وتأثيرها على شخصية الفرد وسلوكه، فبتأثير النشاط الإبداعي، والرغبة في تنمية العمل الإبداعي وإكماله، ووضعه في شكله النهائي؛ مسموعًا، أو مقروءًا أو متذوقًا - غالبًا ما يندفع المبدع في عمليات تركيز شديدة، وانعزال عن الآخرين، وقد تصدر عنه بسبب هذا الاستغراب الشديد مظاهر من السلوك تبدو لعيون الناس كما لو كانت شيئًا غريبًا، يصعب على الإنسان العادي أن يستوعبها وفق المقاييس العادية للسواء النفسي.
يُذكر أن أرشميدس كان ينسى بسبب استغراقه الشديد في عمله، حتى الضروريات الحيوية المطلوبة لحياته، بما في ذلك حاجته إلى الطعام.
وتتفاوت مشقات العمل الإبداعي ومخاطره على الصحة النفسية والجسمية في المراحل المختلفة من العمل الإبداعي، وإنجازه في صورته النهائية.
فحتى يصل العمل إلى صورته النهائية تمر به فترات صعبة، يطلق عليها الدكتوران مايني ونوردبيك من السويد - مفهوم اللحظات الحرجة، ويقصد بها تلك اللحظات التي قد يواجهها المفكر ويعانيها، ويكون لها تأثير حاسم في نمو العمل وتطوير الفكرة أو تنفيذها؛ سواء بالاندفاع نحو إنجاز العمل، أو بفقدان الهمة، فاللحظات الحرجة قد تكون إيجابية أو سلبية.
وفضلاً عن ضغوط العمل الإبداعي ذاته، فإنه توجد الضغوط المادية المتعلقة بالكسب والأمان الاقتصادي.
يقول لورانس دوريل: إنني أكتب لأعيش، وإلا فمن أين تأتي الشيكات للوفاء بمطالب الحياة، وهي قاسية لا ترحم.
وإذًا فإن الأمان المادي يُعد عونًا كبيرًا للمبدع، وأحد احتياجاته الرئيسة، خاصة في المراحل المبكرة في حياة المبدعين، وفي فترات المعاناة من مطالب الحياة، والحديث عن الأمان الاقتصادي بالنسبة إلى الإبداع والمبدعين، ليس مقصودًا منه الحديث عن الثروة المترامية والأملاك الشاسعة؛ لأن البحوث تشير إلى أن الرغبة في الكسب المادي المجرد تحتل لدى المبدع مكانًا ثانويًّا، وقد يصبح الإسراف والاهتمام الشديد بجمع المال متعارضين ومحبطين للعملية الإبداعية ذاتها، وما تتطلبه من إخلاص وتفانٍ.
بَيْدَ أن الأمان الاقتصادي للمبدع يكتسب خطورته عندما يتدنى الوضع الاقتصادي إلى درجة تعجزه عن تحقيق متطلباته الصحية والغذائية والترفيهية، أو تؤثر في تكامله الأسري والاجتماعي، هنا ينبغي أن نقلق على الكفاءات الإبداعية التي قد تندثر وتجهض مبكرًا.
ختامًا أقول:
الأمان المادي والمالي أمران ضروريان، ولكن إذا جاء اليسر المالي مبكرًا، وكنت تحب الحياة وملذاتها أكثر من حبك للعمل والإبداع، فالمسألة تتطلب على حد قول همنجواي عزيمة قوية لمقاومة المغريات، وممارسة نشاطاتك الإبداعية.