صلة الرحم وأثرها في بناء المجتمعات
الحمد لله الذي أمر بصلة الأرحام وجعلها من أعظم القربات* وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له* وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله* صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: عباد الله* أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى* فهي وصية الله للأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]. أيها الأخوة: لما نزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]* دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرَيْشًا* فَاجْتَمَعُوا* فَعَمَّ وَخَصَّ* فَقَالَ: «يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ* أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ* يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ* أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ* يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ* أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ* يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ* أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ* يَا بَنِي هَاشِمٍ* أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ* يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ* أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ* يَا فَاطِمَةُ* أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ* فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا* غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا»[1]؛ أي: إن لكم قرابة سأصلها بصلتها وبالإحسان إليها* ولكني لا أغني عنكم من الله شيئًا* وهذا هو حال المسلم؛ لما يفيض قلبه محبةً ورأفةً ورحمةً على جميع خلق الله* فيرجو لهم الخير* ويدفع عنهم الشر والأذى ما استطاع* وخاصة ذوي القربى. أيهاالأحبة: صلة الرحم من أعظم ما أمر الله به عباده المؤمنين* فهي طريق لرضاه* وسبب لبركة الأعمار وزيادة الأرزاق. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ* وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ* فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»[2] وقد قرن الله صلة الرحم بعبادته فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]* وهذا دليل على عظم شأنها وعلو مكانتها عند الله. أيها الأحبة: قد يُبتلى الإنسان ببعض الأذى أو الإساءة من أقاربه* وقد يجد مشقة في صلتهم* لكن الصبر على ذلك من أعظم الأعمال عند الله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ* وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»[3]. فالصبر على أذى الأقارب عبادة عظيمة تثقل ميزان العبد يوم القيامة* وتُطهِّر قلبه من الحقد والبغضاء* وترفع درجته عند ربه. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة* فقد كان يصل رحمه برغم ما لقيه من أذى من بعض أقاربه* بل كان يدعو لهم بالهداية والمغفرة. أيهاالأحبة: التسامح خُلُق نبيل يجب أن يترسخ في قلوبنا* خاصة مع أقاربنا وأرحامنا. يقول الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]* فإذا أردت أن يغفر الله لك* فسامح من أساء إليك* وتجاوز عن زلات القريب* واحتسب ذلك عند الله. واعلم أن العفو عن القريب يجلب الألفة* ويزيل العداوة* ويجمع القلوب على المحبة والتراحم. أيهاالمسلمون: من أروع قصص النجاح في صلة الرحم ما حدث بين نبي الله يوسف عليه السلام وإخوته. فقد ألقوه في البئر* وحاولوا قتله* ثم باعوه بثمن بخس* ورغم ذلك عندما التقى بهم بعد سنين طويلة قال لهم: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]. انظروا كيف سامح يوسف عليه السلام إخوته* وكيف جمعهم الله من بعد فُرقة* وجعل ذلك سببًا في سعادتهم جميعًا. وفي زماننا* كم من أُسر عادت لها المودة بعد سنوات من القطيعة بسبب كلمة طيبة أو موقف كريم من أحد أفرادها. إن بناء المجتمعات يبدأ من إصلاح الأسرة* وصلة الرحم هي الأساس لذلك الإصلاح. أيهاالأحبة: أذكركم ونفسي بعظم أجر صلة الرحم* وبأنها سبب في رضا الله وتكفير السيئات. فلنبدأ اليوم بزيارة أو اتصال أو رسالة طيبة لمن بيننا وبينهم قطيعة* ولنصلح ذات البين* ولنجعل التسامح خُلُقنا الدائم. وإنه لعِظَمِ مكانة صلة الرحم في الدين* كانت أفضل الصدقات الصدقةَ على ذوي الرحم والقربى فعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ* وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ»[4]. عباد الله* إذا كانت صلة الرحم لها هذه المكانة في الدين وهذا الشأن العظيم* فإن القطيعة أمرها خطير* وشرها مستطير* ونذير شؤم على صاحبها* فقد ورد في صحيح مسلم من حديث مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ* أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ»[5] وحسب قاطع الرحم بلاءً وشقاءً وحرمانًا ألَّا يُرفَع له عملٌ* فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ* فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ»[6] [7].
[1] أخرجه مسلم في صحيحه (204).
[2] أخرجه البخاري (5986)* ومسلم (2557).
[3] أخرجه البخاري في صحيحه(5991).
[4] أخرجه النسائي في سننه (2582)* وصححه الألباني في المشكاة (1939).
[5] أخرجه مسلم في صحيحه (5984).
[6] أخرجه أحمد في مسنده (10272)* وحسن إسناده محققو المسند ط: الرسالة.
[7] بتصرف من خطبة في الألوكة بعنوان صلة الرحم
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|