![]() |
بطالة فكرية وأخرى مقنعة
بطالة فكرية وأخرى مقنعة درَج النَّاس على ذمِّ البطَّالين العاطِلِين، الذين لا شُغلَ لهم بدُنيَا أو دِين، حتى إنَّ الرجل ربما يَعمَل في مَجالٍ لا يَرُوقُ له حتى لا يُقال: "لا يعمل"، "ولا يشتغل"، وهذا جيِّد؛ فإنَّ البطالة سببٌ لتفشِّي الأزمات في المجتمع. لكنْ أليس من العَيْب كذلك تفشِّي نوعٌ من بطالةٍ أُخرَى في المجتمع؛ بطالة الفكر والتصوُّر والغاية من الحياة؟ بحيث تَتوافَق حَياة الإنسان مع حياة الحيوان، من حيث تَوفِير المَأكَل والمَشرَب والمنكح والمَسكَن لا غير، تمامًا كما تَحيا الأُمَم غير المسلمة؟ حتى إنَّ كثيرًا من المُنتَسِبين للالتِزام بالدِّين والسُّنَّة جنَحتْ بهم تلك الأزمة عن الجادَّة الفكريَّة، وانجرَفُوا مع مَن انجرَفُوا في تيَّار الهوائيَّة المَقِيتة التي لا تُبقِي على دينٍ أو تصوُّر. الثَّبات على التصوُّرات أيها الملتزمون: لقد كان لكَثيرٍ منَّا في بِداياته تصوُّرات نحو دَورِه كمسلمٍ يجب أنْ يعمل من أجل رِفعَةِ دِينِه، فإذا الدُّنيا تتخطَّف الملتَزِمَ المتسنِّن كما تتخطَّف غيره تمامًا، وإذا به يَنسَى تصوُّره عن دوره في خِدمة دينه! ويَعِيش كما يَعِيش الناس؛ همُّه همُّهم، وعمله عملهم، غير أنَّ ظاهره فقط غير ظاهرهم. لا يَدرِي أحدُهم لماذا يَحيَا، وإنْ قال بلسانه: لله ولدينه، فإنَّ أعماله المتشعِّبة به في أودِيَة الدُّنيا المختلفة تفضَحُه وتكذِّبُ قولَه، فيشغل المرء تارَةً بعمَلِه أو تجارته، وتارَةً بترَفِه ورفاهيته، وتارَةً وتارَةً وتارَةً... أمَّا داخله من فكر فخَواء كبير؛ كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((غُثاء كغُثاء السَّيل)) [أحمد وأبو داود، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع"]. بطالة فكرية: تلك البطالة الفكريَّة التي يَعِيشُها كثيرٌ من الملتَزِمين - فضلاً عن جماهير الناس - أخطَرُ ما يُهدِّد الأمَّةَ الإسلاميَّة؛ إذ نحن وقود الأمَّة التي تَسِير به لتستردَّ مكانتها ثانيةً، فإذا فُقِدَ هذا الوقود توقَّفت الأمَّة عن المَسِير، تمامًا كما هو الواقع. وكان لتلك البطالة الفكريَّة في حَياةِ المُلتَزِمين أسبابٌ كثيرة مُتَداخِلة؛ حيث إنَّ بعضَها سببٌ لبعضها، وإنما نُفرِدها بالذِّكر؛ للتَّسهِيل والاستيعاب فقط: ضَعْفُ التربية على معاني البذْل للدِّين والتضحِيَة من أجله: فالتربية على تلك المعاني أعمَقُ بكثيرٍ من مجرَّد المعرفة، والمتفلِّتون من دَورِهم في القِيام بواجبهم نحو دِينِهم إنما كانوا للدربة على تلك المعاني أحوَجَ من مجرَّد المعرفة، وتحقِيق تلك التربية بشقَّيْها: العلميِّ والعمليِّ، يختَلِف من مَجالٍ إلى آخَر. انعِدام البيئة الإيمانيَّة: التي لا تفتَأُ تُذكِّر المرء مِنَّا بقضيَّته وواجبه فيها، والبيئة الإيمانية قد تكون مَسجِدًا يُتعاوَن فيه على طاعة الله - تعالى - أو صُحبَة صالحة خارِجَه تجتَمِع فيُذَكِّر بعضُها بعضًا، فإنْ عُدم الأمران فليس أقل من انتِماء روحي للدِّين وهمومه، انتِماء يُشعِر الإنسان بأنَّ له إخوانًا على دَربِه سائِرُون، منهم مَن قد سبَق، ومنهم مَن ينتَظِر، فتُشحَذ همّتُه نحو الخير والإصلاح، ويُولِّي الدِّين وحدَه وجهه. فقدان تصوُّر "قانون النصرة": ومنَّا مَن يبعد؛ لأنَّه لم يعرف دورَه في النُّصرة، أو لم يجد دَوْرًا يُناسِبه! فهو لم يستَطِع الصبرَ على طلَب العِلم، ولم يتيسَّر له الجِهاد، و...و...و... ولو قام هذا بداخِلِه تصوُّر قانون النُّصرة المتَّسع لعمل ومُشارَكة كلِّ مُسلِم، لَمَا ولَّى قضيَّته ظَهرَه، فالذي لا يستَطِيع العلمَ والجِهاد يستَطِيع الإنفاقَ والخِدمة، والذي لا يستَطِيع كلَّ هذا لن يعجز عن أمرٍ بخيرٍ ومعروفٍ، ونهيٍ عن معصية ومُنكَر، وفي النِّهاية تكثير سَواد أهل الحقِّ بوجوده بينهم. عدم مُمارَسة العمل الدعوي: من أعظم سُبُلِ الثَّبات على الحقِّ مُمارَسة الدَّعوة إليه، ومَجالات الدعوة إلى الإسلام - كما سبق - أكثَرُ من أنْ تُحصَى، وإنما تَناسَى كثيرٌ مِنَّا قضيَّتهم في نُصرَة دِينِهم؛ من جرَّاء انشِغالهم عنها، فجُوزُوا بجنس عملهم، وصرَفَهم الله عنها، ولو أنهم انشغَلُوا بها أوَّلاً، لزادَهم الله - تعالى - قُربًا منها. كثرة الصَّوارِف: لا يَكاد المُسلِم ينشَغِل بدِينِه وقضيَّته حتى يُبتَلى بكثْرة الصَّوارِف والشَّواغِل، سَواء شهوات تعتَرِض طريقَه، أو شبهات تُعطِّله، أو مُضايقات تَعُوقُه عن غايته، والله - تعالى - يُقدِّر تلك البلاءات على عِباده المؤمنين؛ ليَرَى صدق طلبهم، وليُقوِّي عُودهم، وليُطهِّر قلوبهم من إرادة غيره وقَصْدِ سواه، إلاَّ أنَّ كثيرًا لا يَصبِرون على هذا الاختبار؛ فيَسقُطون في مَراتِع الشهوات، أو بَراثِن الشبهات، أو مَزالِق المُضايَقات. تلك أهمُّ أسباب ذلك الخواء الفِكري الذي يُسَيطِر على كثيرٍ منَّا، فإذا استَطَعنا تجنُّب تلك الأسباب تعافَيْنا من هذا المرَض العُضال. بطالة عمليَّة مقنَّعة: لكنْ هناك نوع آخَر من البطالة العمليَّة المقنَّعة، وهي وإنْ قامَتْ على تصوُّر لدَوْر المسلم نحو دِينِه وهموم أمَّته، إلاَّ أنها أخْطأت الطريقَ، وتوهَّمت انشِغالاتها الفارغة أعمالاً صالحة ينتَصِر بها الإسلامُ في معركته. وهدَأتْ على أثرها شحنات الإيمان في النُّفوس، دون أنْ تَترُكَ أثرًا واضِحًا من عَمَلٍ مبنيٍّ على تَأصِيلٍ صحيح، فظهَرت الدَّعاوى والمُجادَلات، وجعلت المنتديات الحواريَّة ساحات قتال، فكانت بطالة عمليَّة مقنَّعة! والمتتبِّع للواقِع الدَّعوي، يجد لتلك البطالة مَظاهِرها الكثيرة، في الانشِغال بالمَفضُول حِينًا، واستِيلاء التَّنظِير على التَّطبِيق حِينًا، وبإنفاذ المَجهُودات في الاختِلافات أحيانًا كثيرة، وغير ذلك ممَّا هو مُشاهَد بيننا. وقد ساعَد على انتِشار تلك البطالة أسبابٌ كثيرةٌ، منها بعض ما مَرَّ من أسباب البطالة الفكريَّة، ومنها: التباس الحقِّ: حيث لا يتحقَّق الإنسان طريقًا مُعيَّنًا يَسِير عليه، فيُكثِر من الالتِفات ولا يستقرُّ على عمل أو منهج وطريق يَصِلُ به إلى مُبتَغاه، على أنَّنا حين نقول: التِباس الحقِّ، لا يعني أنَّنا نرى مَنهَجًا صَوابًا والآخَر خلافه، بل نقصد عدم الاستِقرار على منهجٍ يَراه الشَّخص أنفَع وأجدَى له، أو للدعوة، أو للظُّروف المُحِيطة بالدَّعوة - من منهج غيره. ميل النفوس إلى الكلام أكثر من الفعل والعمل: ولقد تَعامَل الإسلام مع هذا المرَض القديم في البشَر مُعامَلةً حازمة، لا تقبل مجرَّد التَّروِيض، فضلاً عن التَّغافُل عنه أو الرِّضا به؛ قال الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2 - 3]، ولهذا قَلَّ التحرُّك فينا والعمل. والحمد لله ربِّ العالمين، وصَلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وناقل الخير كفاعله و |
رد: بطالة فكرية وأخرى مقنعة
يعطيك العافية يارب ولك مني باقات من القرنفل تحمل في شذاها اسمي معاني الاحترام |
Powered by vBulletin Version 3.8.8
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd
Trans
هذا الموقع يتسخدم منتجات Weblanca.com
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by
Advanced User Tagging (Lite) -
vBulletin Mods & Addons Copyright © 2025 DragonByte Technologies Ltd.
استضافه ودعم وتطوير وحمايه من استضافة تعاون